سورة التوبة - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)}
لما أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالهجرة من مكة إلى المدينة جعل الرجل يقول لأبيه والأب لابنه والأخ لأخيه والرجل لزوجته: إنا قد أمرنا بالهجرة، فمنهم من تسارع لذلك، ومنهم من أبى أن يهاجر، فيقول: والله لئن لم تخرجوا إلى دار الهجرة لا أنفعكم ولا أنفق عليكم شيئا أبدا. ومنهم من تتعلق به امرأته وولده ويقولون له: أنشدك بالله ألا تخرج فنضيع بعدك، فمنهم من يرق فيدع الهجرة ويقيم معهم، فنزلت {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ}. يقول: إن اختاروا الإقامة على الكفر بمكة على الايمان بالله والهجرة إلى المدينة. {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} بعد نزول الآية {فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. ثم نزل في الذين تخلفوا ولم يهاجروا: {قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} وهي الجماعة التي ترجع إلى عقد واحد كعقد العشرة فما زاد، ومنه المعاشرة وهي الاجتماع على الشيء. {وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها} يقول: اكتسبتموها بمكة. واصل الاقتراف اقتطاع الشيء من مكانه إلى غيره. {وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها} قال ابن المبارك: هي البنات والأخوات إذا كسدن في البيت لا يجدن لهن خاطبا. قال الشاعر:
كسدن من الفقر في قومهن *** وقد زادهن مقامي كسودا
{وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها} يقول: ومنازل تعجبكم الإقامة فيها. {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ} من أن تهاجروا إلى الله ورسوله بالمدينة. و{أَحَبَّ} خبر كان. ويجوز في غير القرآن رفع {أَحَبَّ} على الابتداء والخبر، واسم كان مضمر فيها. وأنشد سيبويه:
إذا مت كان الناس صنفان: شامت *** وآخر مثن بالذي كنت أصنع
وأنشد:
هي الشفاء لدائي لو ظفرت بها *** وليس منها شفاء الداء مبذول
وفي الآية دليل على وجوب حب الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الامة، وأن ذلك مقدم على كل محبوب. وقد مضى في آل عمران معنى محبة الله تعالى ومحبة رسوله. {وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} صيغته صيغة أمر ومعناه التهديد. يقول: انتظروا. {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}
يعني بالقتال وفتح مكة عن مجاهد. الحسن: بعقوبة آجلة أو عاجلة، وفي قوله: {وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ} دليل على فضل الجهاد، وإيثاره على راحة النفس وعلائقها بالأهل والمال. وسيأتي فضل الجهاد في آخر السورة. وقد مضى من أحكام الهجرة في {النساء} ما فيه كفاية، والحمد لله.
وفي الحديث الصحيح: «إن الشيطان قعد لابن آدم ثلاث مقاعد قعد له في طريق الإسلام فقال لم تذر دينك ودين آبائك فخالفه وأسلم وقعد له في طريق الهجرة فقال له أتذر مالك وأهلك فخالفه وهاجر ثم قعد في طريق الجهاد فقال له تجاهد فتقتل فينكح أهلك ويقسم مالك فخالفه وجاهد فحق على الله أن يدخله الجنة». وأخرجه النسائي من حديث سبرة بن أبي فاكه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن الشيطان...» فذكره. قال البخاري: ابن الفاكه ولم يذكر فيه اختلافا.
وقال ابن أبي عدي: يقال ابن الفاكه وابن أبي الفاكه. انتهى.


{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)}
فيه ثمان مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ} لما بلغ هوازن فتح مكة جمعهم مالك بن عوف النصري من بنى نصر بن مالك، وكانت الرياسة في جميع العسكر إليه، وساق مع الكفار أموالهم ومواشيهم ونساء هم وأولادهم، وزعم أن ذلك يحمي به نفوسهم وتشتد في القتال عند ذلك شوكتهم. وكانوا ثمانية آلاف في قول الحسن ومجاهد.
وقيل: أربعة آلاف، من هوازن وثقيف. وعلى هوازن مالك بن عوف، وعلى ثقيف كنانة بن عبد، فنزلوا بأوطاس. وبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي عينا، فأتاه وأخبره بما شاهد منهم، فعزم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قصدهم، واستعار من صفوان ابن أمية بن خلف الجمحي دروعا. قيل: مائة درع.
وقيل: أربعمائة درع. واستسلف من ربيعة المخزومي ثلاثين ألفا أو أربعين ألفا، فلما قدم قضاه إياها. ثم قال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بارك الله لك في أهلك ومالك إنما جزاء السلف الوفاء والحمد» خرجه ابن ماجه في السنن. وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في اثني عشر ألفا من المسلمين، منهم عشرة آلاف صحبوه من المدينة وألفان من مسلمة الفتح وهم الطلقاء إلى من انضاف إليه من الاعراب، من سليم وبني كلاب وعبس وذبيان. واستعمل على مكة عتاب بن أسيد.
وفي مخرجه هذا رأى جهال الاعراب شجرة خضراء وكان لهم في الجاهلية شجرة معروفة تسمى ذات أنواط يخرج إليها الكفار يوما معلوما في السنة يعظمونها، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال عليه السلام: «الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى أنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه». فنهض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أتى وادي حنين، وهو من أودية تهامة، وكانت هو ازن قد كمنت في جنبتي الوادي وذلك في غبش الصبح فحملت على المسلمين حملة رجل واحد، فانهزم جمهور المسلمين ولم يلو أحد على أحد، وثبت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وثبت معه أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابنه جعفر، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد- وهو أيمن بن أم أيمن قتل يومئذ بحنين- وربيعة ابن الحارث، والفضل بن عباس، وقيل في موضع جعفر بن أبي سفيان: قثم بن العباس. فهؤلاء عشرة رجال، ولهذا قال العباس:
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة *** وقد فر من قد فر عنه وأقشعوا
وعاشرنا لاقي الحمام بنفسه *** بما مسه في الله لا يتوجع
وثبتت أم سليم في جملة من ثبت محتزمة ممسكة بعيرا لابي طلحة وفي يدها خنجر. ولم ينهزم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أحد من هؤلاء، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بغلته الشهباء واسمها دلدل.
وفي صحيح مسلم عن أنس قال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكفها إرادة ألا تسرع وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أي عباس ناد أصحاب السمرة». فقال عباس- وكان رجلا صيتا. ويروى من شدة صوته أنه أغير يوما على مكة فنادى وا صباحاه! فأسقطت كل حامل سمعت صوته جنينها-: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها. فقالوا: يا لبيك يا لبيك. قال: فاقتتلوا والكفار... الحديث. وفيه: قال ثم أخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حصيات فرمى بهن وجوه الكفار. ثم قال: «انهزموا ورب محمد». قال فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى. قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته، فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا. قال أبو عمر: روينا من وجوه عن بعض من أسلم من المشركين ممن شهد حنينا أنه قال- وقد سئل عن يوم حنين-: لقينا المسلمين فما لبثنا أن هزمناهم وأتبعناهم حتى انتهينا إلى رجل راكب على بغلة بيضاء، فلما رآنا زجرنا زجرة وانتهرنا، واخذ بكفه حصى وترابا فرمى به وقال: «شاهت الوجوه» فلم تبق عين إلا دخلها من ذلك، وما ملكنا أنفسنا أن رجعنا على أعقابنا.
وقال سعيد بن جبير: حدثنا رجل من المشركين، يوم حنين قال: لما التقينا مع أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقفوا لنا حلب شاة، حتى إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء- يعني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تلقانا رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا لنا: شاهت الوجوه، ارجعوا، فرجعنا وركبوا أكتافنا فكانت إياها. يعني الملائكة. قلت: ولا تعارض فإنه يحتمل أن يكون شاهت الوجوه من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن قول الملائكة معا ويدل على أن الملائكة قاتلت يوم حنين. فالله أعلم. وقتل علي رضي الله عنه يوم حنين أربعين رجلا بيده. وسبى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعة آلاف رأس.
وقيل: ستة آلاف، واثنتي عشرة ألف ناقة سوى ما لا يعلم من الغنائم.
الثانية: قال العلماء في هذه الغزاة: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه». وقد مضى في {الأنفال} بيانه. قال ابن العربي: ولهذه النكتة وغيرها أدخل الأحكاميون هذه الآية في الأحكام. قلت: وفية أيضا جواز استعارة السلاح وجواز الاستمتاع بما استعير إذا كان على المعهود مما يستعار له مثله، وجواز استلاف الامام المال عند الحاجة إلى ذلك ورده إلى صاحبه. وحديث صفوان أصل في هذا الباب.
وفي هذه الغزاة أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض حيضة». وهو يدل على أن السبي يقطع العصمة. وقد مضى بيانه في سورة النساء مستوفى.
وفي حديث مالك أن صفوان خرج مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو كافر، فشهد حنينا والطائف وامرأته مسلمة. الحديث. قال مالك: ولم يكن ذلك بأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أرى أن يستعان بالمشركين على المشركين إلا أن يكونوا خدما أو نواتية.
وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري والأوزاعي:
لا بأس بذلك إذا كان حكم الإسلام هو الغالب، وإنما تكره الاستعانة بهم إذا كان حكم الشرك هو الظاهر. وقد مضى القول في الأسهام لهم في الأنفال الثالثة: قوله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} {حُنَيْنٍ} واد بين مكة والطائف، وانصرف لأنه اسم مذكر، وهي لغة القرآن. ومن العرب من لا يصرفه، يجعله اسما للبقعة. وأنشد:
نصروا نبيهم وشدوا أزره *** بحنين يوم تواكل الابطال
{وَيَوْمَ} ظرف، وانتصب هنا على معنى: ونصركم يوم حنين.
وقال الفراء: لم تنصرف {مَواطِنَ} لأنه ليس لها نظير في المفرد وليس لها جماع، إلا أن الشاعر ربما اضطر فجمع، وليس يجوز في الكلام كلما يجوز في الشعر. وأنشد:
فهن يعلكن حدائداتها ***
وقال النحاس: رأيت أبا إسحاق يتعجب من هذا قال: أخذ قول الخليل وأخطأ فيه، لان الخليل يقول فيه: لم ينصرف لأنه جمع لا نظير له في الواحد، ولا يجمع جمع التكسير، وأما بالألف والتاء فلا يمتنع.
الرابعة: قوله تعالى: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} قيل: كانوا اثني عشر ألفا.
وقيل: أحد عشر ألفا وخمسمائة.
وقيل: ستة عشر ألفا. فقال بعضهم: لن نغلب اليوم عن قلة. فوكلوا إلى هذه الكلمة، فكان ما ذكرناه من الهزيمة في الابتداء إلى أن تراجعوا، فكان النصر والظفر للمسلمين ببركة سيد المرسلين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فبين الله عز وجل في هذه الآية أن الغلبة إنما تكون بنصر الله لا بالكثرة وقد قال: {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160].
الخامسة: قوله تعالى: {وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ} أي من الخوف، كما قال:
كأن بلاد الله وهي عريضة *** على الخائف المطلوب كفة حابل
والرحب بضم الراء السعة. تقول منه: فلان رحب الصدر. والرحب بالفتح: الواسع. تقول منه: بلد رحب، وأرض رحبة. وقد رحبت ترحب رحبا ورحابة.
وقيل: الباء بمعنى مع أي مع رحبها.
وقيل: بمعنى على، أي على رحبها.
وقيل: المعنى برحبها، ف {ما} مصدرية.
السادسة: قوله تعالى: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} روى مسلم عن أبي إسحاق قال: جاء رجل إلى البراء فقال: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة. فقال: أشهد على نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ولى، ولكنه انطلق أخفاء من الناس، وحسر إلى هذا الحي من هوازن. وهم قوم رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو سفيان يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول: «أنا النبي لا كذب. أنا ابن عبد المطلب. اللهم نزل نصرك». قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
السابعة: قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي أنزل عليهم ما يسكنهم ويذهب خوفهم، حتى اجترءوا على قتال المشركين بعد أن ولوا. {وأنزل جنودا لم تروها} وهم الملائكة، يقوون المؤمنين بما يلقون في قلوبهم من الخواطر والتثبيت، ويضعفون الكافرين بالتجبين لهم من حيث لا يرونهم ومن غير قتال، لان الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر. وروي أن رجلا من بني نصر قال للمؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق، والرجال الذين كانوا عليها بيض، ما كنا فيهم إلا كهيئة الشامة، وما كان قتلنا إلا بأيديهم. أخبروا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك فقال: «تلك الملائكة». {وعذب الذين كفروا} أي بأسيافكم. {وذلك جزاء الكافرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء} أي على من انهزم فيهديه إلى الإسلام. كمالك بن عوف النصري رئيس حنين ومن أسلم معه من قومه.
الثانية: ولما قسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غنائم حنين بالجعرانة، أتاه وفد هو ازن مسلمين راغبين في العطف عليهم والإحسان إليهم، وقالوا: يا رسول الله، انك خير الناس وأبر الناس، وقد أخذت أبناءنا ونساءنا وأموالنا. فقال لهم: «إني قد كنت استأنيت بكم وقد وقعت المقاسم وعندي من ترون وإن خير القول أصدقه فاختاروا إما ذراريكم وإما أموالكم». فقالوا: لا نعدل بالأنساب شيئا. فقام خطيبا وقال:«هؤلاء جاءونا مسلمين وقد خيرناهم فلم يعدلوا بالأنساب فرضوا برد الذرية وما كان لي ولبني عبد المطلب وبني هاشم فهو لهم».
وقال المهاجرون والأنصار: أما ما كان لنا فهو لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وامتنع الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن في قومهما من أن يردوا عليهم شيئا مما وقع لهم في سهامهم. وامتنع العباس بن مرداس السلمي كذلك، وطمع أن يساعده قومه كما ساعد الأقرع وعيينة قومهما. فأبت بنو سليم وقالوا: بل ما كان لنا فهو لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من ضن منكم بما في يديه فإنا نعوضه منه». فرد عليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نساء هم وأولادهم، وعوض من لم تطب نفسه بترك نصيبه أعواضا رضوا بها.
وقال قتادة: ذكر لنا أن ظئر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي أرضعته من بني سعد أتته يوم حنين فسألته سبايا حنين. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني لا أملك إلا ما يصيبني منهم ولكن ايتيني غدا فاسأليني والناس عندي فإذا أعطيتك حصتي أعطاك الناس». فجاءت الغد فبسط لها ثوبه فأقعد ها عليه. ثم سألته فأعطاها نصيبه فلما رأى ذلك الناس أعطوها أنصباء هم. وكان عدد سبي هو زان في قول سعيد بن المسيب ستة آلاف رأس.
وقيل: أربعة آلاف قال أبو عمر: فيهن الشيماء أخت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الرضاعة، وهي بنت الحارث بن عبد العزى من بنى سعد بن بكر وبنت حليمة السعدية، فأكرمها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعطاها وأحسن إليها، ورجعت مسرورة إلى بلادها بدينها وبما أفاء الله عليها. قال ابن عباس: رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أوطاس امرأة تعدو وتصيح ولا تستقر، فسأل عنها فقيل: فقدت بنيا لها. ثم رآها وقد وجدت ابنها وهي تقبله وتدنيه، فدعاها وقال لأصحابه: «أطارحة هذه ولدها في النار»؟ قالوا: لا. قال: «لم»؟ قالوا: لشفقتها. قال: «الله أرحم بكم منها». وخرجه مسلم بمعناه، والحمد لله.


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)}
فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} ابتداء وخبر. واختلف العلماء في معنى وصف المشرك بالنجس، فقال قتادة ومعمر بن راشد وغير هما: لأنه جنب إذ غسله من الجنابة ليس بغسل.
وقال ابن عباس وغيره: بل معنى الشرك هو الذي نجسه. قال الحسن البصري من صافح مشركا فليتوضأ. والمذهب كله على إيجاب الغسل على الكافر إذا أسلم إلا ابن عبد الحكم فإنه قال: ليس بواجب، لان الإسلام يهدم ما كان قبله. وبوجوب الغسل عليه قال أبو ثور وأحمد. وأسقطه الشافعي وقال: أحب إلي أن يغتسل. ونحوه لابن القاسم. ولمالك قول: إنه لا يعرف الغسل، رواه عنه ابن وهب وابن أبي أويس. وحديث ثمامة وقيس بن عاصم يرد هذه الأقوال. رواهما أبو حاتم البستي في صحيح مسنده. وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بثمامة يوما فأسلم فبعث به إلى حائط أبي طلحة فأمره أن يغتسل، فاغتسل وصلي ركعتين. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لقد حسن إسلام صاحبكم» وأخرجه مسلم بمعناه. وفيه: أن ثمامة لما من عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل. وأمر قيس ابن عاصم أن يغتسل بماء وسدر. فإن كان إسلامه قبيل احتلامه فغسله مستحب. ومتى أسلم بعد بلوغه لزمه أن ينوي بغسله الجنابة. هذا قول علمائنا، وهو تحصيل المذهب. وقد أجاز ابن القاسم للكافر أن يغتسل قبل إظهاره للشهادة بلسانه إذا اعتقد الإسلام بقلبه وهو قول ضعيف في النظر مخالف للأثر. وذلك أن أحدا لا يكون بالنية مسلما دون القول. هذا قول جماعة أهل السنة في الايمان: إنه قول باللسان وتصديق بالقلب، ويزكو بالعمل. قال الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 01].
الثانية: قوله تعالى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ} {فلا يقربوا} نهي، ولذلك حذفت منه النون. {الْمَسْجِدَ الْحَرامَ} هذا اللفظ يطلق على جميع الحرم، وهو مذهب عطاء فإذا يحرم تمكين المشرك من دخول الحرم أجمع. فإذا جاءنا رسول منهم خرج الامام إلى الحل ليسمع ما يقول. ولو دخل مشرك الحرم مستورا ومات نبش قبره وأخرجت عظامه. فليس لهم الاستيطان ولا الاجتياز. وأما جزيرة العرب، وهي مكة والمدينة واليمامة واليمن ومخاليفها، فقال مالك: يخرج من هذه المواضع كل من كان على غير الإسلام، ولا يمنعون من التردد بها مسافرين. وكذلك قال الشافعي رحمه الله، غير أنه استثنى من ذلك اليمن. ويضرب لهم أجل ثلاثة أيام كما ضربه لهم عمر رضي الله عنه حين أجلاهم. ولا يدفنون فيها ويلجئون إلى الحل.
الثالثة: واختلف العلماء في دخول الكفار المساجد والمسجد الحرام على خمسة أقوال، فقال أهل المدينة: الآية عامة في سائر المشركين وسائر المساجد. وبذلك كتب عمر ابن عبد العزيز إلى عماله ونزع في كتابه بهذه الآية. ويؤيد ذلك قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36]. ودخول الكفار فيها مناقض لترفيعها.
وفي صحيح مسلم وغيره: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والقذر». الحديث. والكافر لا يخلو عن ذلك.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب» والكافر جنب. وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} فسماه الله تعالى نجسا. فلا يخلو أن يكون نجس العين أو مبعدا من طريق الحكم. وأى ذلك كان فمنعه من المسجد واجب لان العلة وهي النجاسة موجودة فيهم، والحرمة موجودة في المسجد. يقال: رجل نجس، وامرأة نجس، ورجلان نجس، وامرأتان نجس، ورجال نجس، ونساء نجس، لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر. فأما النجس بكسر النون وجزم الجيم فلا يقال إلا إذا قيل معه رجس. فإذا أفرد قيل نجس بفتح النون وكسر الجيم ونجس بضم الجيم.
وقال الشافعي رحمه الله: الآية عامة في سائر المشركين، خاصة في المسجد الحرام، ولا يمنعون من دخول غيره، فأباح دخول اليهودي والنصراني في سائر المساجد. قال ابن العربي: وهذا جمود منه على الظاهر، لان قوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة. فإن قيل: فقد ربط النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمامة في المسجد وهو مشرك. قيل له: أجاب علماؤنا عن هذا الحديث- وإن كان صحيحا- بأجوبة: أحدها- أنه كان متقدما على نزول الآية.
الثاني- أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان قد علم بإسلامه فلذلك ربطه.
الثالث- أن ذلك قضية في عين فلا ينبغي أن تدفع بها الادلة التي ذكرناها، لكونها مقيدة حكم القاعدة الكلية. وقد يمكن أن يقال: إنما ربطه في المسجد لينظر حسن صلاة المسلمين واجتماعهم عليها، وحسن آدا بهم في جلوسهم في المسجد، فيستأنس بذلك ويسلم، وكذلك كان. ويمكن أن يقال: إنهم لم يكن لهم موضع يربطونه فيه إلا في المسجد، والله أعلم.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يمنع اليهود والنصارى من دخول المسجد الحرام ولا غيره، ولا يمنع دخول المسجد الحرام إلا المشركون واهل الأوثان. وهذا قول يرده كل ما ذكرناه من الآية وغيرها. قال الكيا الطبري: ويجوز للذمي دخول سائر المساجد عند أبي حنيفة من غير حاجة.
وقال الشافعي: تعتبر الحاجة، ومع الحاجة لا يجوز دخول المسجد الحرام.
وقال عطاء بن أبي رباح: الحرم كله قبلة ومسجد، فينبغي أن يمنعوا من دخول الحرم، لقوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} [الاسراء: 1]. وإنما رفع من بيت أم هانئ.
وقال قتادة: لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب جزية أو عبدا كافرا لمسلم.
وروى إسماعيل بن إسحاق حدثنا يحيى بن عبد الحميد قال حدثنا شريك عن أشعث عن الحسن عن جابر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يقرب المسجد مشرك إلا أن يكون عبدا أو أمة فيدخله لحاجة». وبهذا قال جابر بن عبد الله فإنه قال: العموم يمنع المشرك عن قربان المسجد الحرام، وهو مخصوص في العبد والامة.
الرابعة: قوله تعالى: {بَعْدَ عامِهِمْ هذا} فيه قولان: أحد هما- أنه سنة تسع التي حج فيها أبو بكر.
الثاني- سنة عشر قاله قتادة. ابن العربي: وهو الصحيح الذي يعطيه مقتضى اللفظ وإن من العجب أن يقال: إنه سنة تسع وهو العام الذي وقع فيه الأذان. ولو دخل غلام رجل داره يوما فقال له مولاه: لا تدخل هذه الدار بعد يومك لم يكن المراد اليوم الذي دخل فيه.
الخامسة: قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} قال عمرو بن فائد: المعنى وإذ خفتم. وهذه عجمة، والمعنى بارع بـ {أن}. وكان المسلمون لما منعوا المشركين من الموسم وهم كانوا يجلبون الأطعمة والتجارات، قذف الشيطان في قلوبهم الخوف من الفقر وقالوا: من أين نعيش. فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله. قال الضحاك: ففتح الله عليهم باب الجزية من أهل الذمة بقوله عز وجل: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] الآية.
وقال عكرمة: أغناهم الله بإدرار المطر والنبات وخصب الأرض. فأخصبت تبالة وجرش وحملوا إلى مكة الطعام والودك وكثر الخير. وأسلمت العرب: أهل نجد وصنعاء وغيرهم فتمادى حجهم وتجرهم. وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم. والعيلة: الفقر. يقال: عال الرجل يعيل إذا افتقر. قال الشاعر:
وما يدري الفقير متى غناه *** وما يدري الغني متى يعيل
وقرأ علقمة وغيره من أصحاب ابن مسعود {عائلة} وهو مصدر كالقائلة من قال يقيل. وكالعافية. ويحتمل أن يكون نعتا لمحذوف تقديره: حالا عائلة، ومعناه خصلة شاقة. يقال منه: عالني الامر يعولني: أي شق علي واشتد. وحكى الطبري أنه يقال: عال يعول إذا افتقر.
السادسة: في هذه الآية دليل على أن تعلق القلب بالأسباب في الرزق جائز وليس ذلك بمناف للتوكل وإن كان الرزق مقدرا وأمر الله وقسمه مفعولا ولكنه علقه بالأسباب حكمة ليعلم القلوب التي تتعلق بالأسباب من القلوب التي تتوكل على رب الأرباب. وقد تقدم أن السبب لا ينافي التوكل. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا». أخرجه البخاري. فأخبر أن التوكل الحقيقي لا يضاده الغدو والرواح في طلب الرزق. ابن العربي: ولكن شيوخ الصوفية قالوا: إنما يغدو ويروح في الطاعات فهو السبب الذي يجلب الرزق. قالوا: والدليل عليه أمران: أحدهما- قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132] الثاني- قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. فليس ينزل الرزق من محله، وهو السماء، إلا ما يصعد وهو الذكر الطيب والعمل الصالح وليس بالسعي في الأرض فإنه ليس فيها رزق. والصحيح ما أحكمته السنة عند فقهاء الظاهر وهو العمل بالأسباب الدنيوية من الحرث والتجارة في الأسواق والعمارة للأموال وغرس الثمار. وقد كانت الصحابة تفعل ذلك والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهرهم. قال أبو الحسن بن بطال: أمر الله سبحانه عباده بالإنفاق من طيبات ما كسبوا، إلى غير ذلك من الآي. وقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]. فأحل للمضطر ما كان حرم عليه عند عدمه للغذاء الذي أمره باكتسابه والاغتذاء به، ولم يأمره بانتظار طعام ينزل عليه من السماء، ولو ترك السعي في ترك ما يتغذى به لكان لنفسه قاتلا. وقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتلوى من الجوع ما يجد ما يأكله، ولم ينزل عليه طعام من السماء، وكان يدخر لأهله قوت سنته حتى فتح الله عليه الفتوح. وقد روى أنس بن مالك أن رجلا أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببعير فقال: يا رسول الله، أعقله وأتوكل أو أطلقه وأتوكل؟ قال: «اعقله وتوكل». قلت: ولا حجة لهم في أهل الصفة، فإنهم كانوا فقراء يقعدون في المسجد ما يحرثون ولا يتجرون، ليس لهم كسب ولا مال، إنما هم أضياف الإسلام عند ضيق البلدان، ومع ذلك فإنهم كانوا يحتطبون بالنهار ويسوقون الماء إلى بيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقرءون القرآن بالليل ويصلون. هكذا وصفهم البخاري وغيره. فكانوا يتسببون. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جاءته هدية أكلها معهم، وإن كانت صدقة خصهم بها، فلما كثر الفتح وانتشر الإسلام خرجوا وتأمروا- كأبي هريرة وغيره- وما قعدوا. ثم قيل: الأسباب التي يطلب بها الرزق ستة أنواع: أعلاها كسب نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «جعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري». خرجه الترمذي وصححه. فجعل الله رزق نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كسبه لفضله، وخصه بأفضل أنواع الكسب، وهو أخذ الغلبة والقهر لشرفه.
الثاني- أكل الرجل من عمل يده، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أطيب ما أكل الرجل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده» خرجه البخاري.
وفي التنزيل {وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء: 80]، وروي أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه.
الثالث- التجارة، وهي كانت عمل جل الصحابة رضوان الله عليهم، وخاصة المهاجرين، وقد دل عليها التنزيل في غير موضع.
الرابع- الحرث والغرس. وقد بيناه في سورة البقرة الخامس- إقراء القرآن وتعليمه والرقية، وقد مضى في الفاتحة.
السادس: يأخذ بنية الأداء إذا احتاج، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله». خرجه البخاري. رواه أبو هريرة رضي الله عنه.
السابعة: قوله تعالى: {إن شاء} دليل على أن الرزق ليس بالاجتهاد، وإنما هو من فضل الله تولى قسمته بين عباده وذلك بين في قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} [الزخرف: 32] الآية.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11